الأربعاء، أكتوبر 08، 2008

الدوران في نسق الإرتقاب

حينما ولد جدي أحمد ود المبروك كنت قد تجاوزت لتوي سن الإستدارة الأولي. كنا معا نعاني آثار الحمي أنا أ’عاني إرتقاب أول الحمي و جدي كان يعاني حمي إرتقابه الأخير. فحين بلغت سن إستدارتي الاولي كان جدي و هو رجل ككثير من الرجال في زمانه يسير حثيثا نحو آخر الاستدارات قبل ميلاده. و رغم أن كلانا كان يدور في نسق إرتقابه علي طريقته إلا أن إستداراتنا كانت كثيرا ما تتداخل. كان يحلو له دائما أن يدخلني في نسقه. يعلمني كيف كان يستدير آن إرتقابه أول الحمي. في ذلك الزمن الأخضر دوما قال جدي كان جدك المبروك و هو رجل ككل الرجال في زمانه يعلمنا كيف يجب أن نستدير. لم يكن لاحد من بقية عقدك أن يحاول الخروج علي نسق الإستدارات المرسوم له. أما في هذا الزمن الاخضر حينا فكلٌ يا ولدي يستدير علي طريقته.كان الاحتفال بميلاد جدي مترفا. بدأ التحضير لذلك منذ أن بدأ جدي يستدير ببطء بعد دخوله في نسق إرتقابه الأخير. أبي و أمي و بقية عقدي لم يألوا جهدا في إخراج الإحتفال بالصورة اللائقة فقد بذلوا أقصي ما في وسعهم من جهد. أمي تدربت كثيرا علي الإحتفال فحينما كان جدي يقاسي إرتقابه الأخير في تلك الليالي الباردة التي سبقت ميلاده كانت أمي و معها آخرون من بقية عقدي كثيرا ما يحتفلون و إن كان إحتفالهم في تلك الليالي دون إحتفالهم في ليلة الميلاد الأولي لجدي. أبي بدي متماسكا طوال ليالي الإرتقاب. كان يدخر طاقة إحتفاله ليوم الميلاد الأول. أفرغها تماما حينما أنزلوا جدي إلي مثواه الأول بجانب المواليد الذين كانوا يقطنون قريبا من دارنا الكائنة بمدخل البلدة.في تلك الليلة التي ولد فيها جدي أدركت أنه قد أنتهي أخيرا إلي الإستدارة الأخيرة في نسق إرتقابه.أدركت تماما أنني بات علي أن أعاني نسق إستداراتي وحيدا و علي طريقتي. وحيدا بين بقية عقدي لم أحتفل بميلاد جدي كما ينبغي لي.لم أكن أملك حينها الدافع علي ذلك رغم إنبهاري تماما حينما أضاء جبين جدي إيذانا بلحظة الميلاد. تشبثت بكاملي بما يليني من مرقد جدي الذي كنت لا افارقه إلا ريثما أمارس بعضا من شأني الذي يفرضه حال كوني إنسانا. فمنذ أن أبطأت استدارات جدي كنت حريصا علي أن أشهد بنفسي كيف تكون آخر الأستدارات في نسق الإرتقاب. الكبار من بقية عقدي أنكروا علي أبي أن يتركني أستديرعلي هذا النسق غير المألوف. حاولوا إخراجي من غرفة الميلاد و لكنني كنت قد وطنت نفسي علي ألا أستدير علي طريقتهم. كانوا يعتقدون و ما فتئوا أن لحظات الميلاد الأخير ليست من شأن من لم يبلغ أو يقارب سن الإستدارات الأخيرة. لا زلت لا أفهم لماذا يكون الإنبهار بلحظات الميلاد الأخير حكرا علي الكبار من بقية عقدي رجالهم دون نساءهم و أطفالهم. ربما لأن هذا الإنبهار يفوق قدرة النساء و الأطفال علي الإحتفال. لذلك كان الكبار من بقية عقدي يكتفون من طقوس الإحتفال بانبهارهم بينما يتركون أمر المؤثرات الصوتية للحفل للنساء من بقية عقدي و العقود الاخري.كان آخر المحتفلين قد غادر لتوه حينما جلست و أبي علي البرش الأخير. البروش الأخري كانت قد طويت إيذانا بانتهاء الإحتفال بعد غروب اليوم الثالث لميلاد جدي. هذا البرش الأخير ترك حتي يتسني لأبي و بقية عقدي إكمال الإحتفال إلي اليوم الأربعين بعد الميلاد.حاولت أن أقول شيئا ما لأبي و أنا أختلس النظر إلي وجهه المتعب لكنني أحجمت أخيرا.كان وجه أبي منذ ليلة الميلاد قد إكتسب ملامحا أخري كنت أراها غريبة. ذات الملامح كنت ألحظها في وجوه الكبار من بقية عقدي و لكنها كانت أكثر تجليا في وجه أبي. جميعهم كانوا قد وطنوا أنفسهم علي هذه الملامح طوال أيام الميلاد فقد كان عليهم قيادة برنامج الإحتفال حينما وقفوا في صف واحد عند مدخل المسيد لاستقبال جموع المهنئين الذين كانوا قد بدأوا التوافد منذ الصباح الباكر. أما وجهي أنا فكانت ملامحه قد بدأت في التلاشي منذ أن بلغ جدي آخر الإستدارات في نسق إرتقابه.فذات ليلة موغلة في الحضور قبل أن يولد جدي بأيام طلب مني أن أناوله مسبحته ذات الألف لالوبة تلك التي كانت لا تفارقه أبدا أيام كان يستدير كما الآخرين.لكنهم حينما اكتنفهم الشعور بدنو لحظة ميلاده نقلوها ضمن بعض أشيائه إلي الغرفة الاخري أقصي الدار.كان جدي قد دأب علي إدخالي في نسق لالوباته.يأمرني أن أحملها علي كتفي و أدور بها أنحاء الدار قبل أن يسبقني إليه لهاثي المتزايد فيناديني مترفقا ثم يمسح علي رأسي و هو يقول ذات يوم يا ولدي ستحملها خفافا ثم أجلس أمامه معتمدا علي ركبتي فيرمقني في عتاب حاني فأتدارك الأمر سريعا و أجلس أمامه جلستي للصلاة ثم يبحر مركب اللالوب بين ضفتينا فأجدني و جدي و عقد اللالوبات قد انتظمنا نسقا واحدا.في تلك الليلة التي سبقت ميلاد جدي ألفيتني قد توشحت عقد اللالوبات فطار بي و درنا أربعة أركان البلدة قبل أن نعود إلي جدي الذي كان قد جلس علي مصلاته ثم طلب من كل الحاضرين الخروج إلي حيث ينالون راحتهم. بقيت في تلك الليلة وحيدا مع جدي فدنوت منه و مسبحة اللالوب ما زالت تتوشحني فأجلسني علي يمينه ثم توضأنا سويا من ذات الماء الذي أفاض منه جدي علي كل اللالوبات قبل أن نبحر ثلاثتنا في نسق دافئ لإرتقاب واحد.بكت كل اللالوبات في حضرة الإرتقاب البهي.واحدة و ألف لالوبة توسلن إلي جدي أن يبارك تضامها و إندياحها في نسق واحد. بكيت و جدي و نحن نعانق لالوباتنا حتي إمتزجت دموعنا بدموعها.في تلك الليلة المخضرة دوما في خاطري أحسست أنني أولد من جديد لالوبة بعد الألف. فمنذ أن طوي أبي و البقية من عقدي آخر البروش إيذانا بإنتهاء الإحتفال بعد غروب شمس اليوم الأربعين لميلاد جدي و مسبحة اللالوب ذات الواحد و الألف لالوبة تدور و تدور في نسق إرتقابها لأوبة الزمن الأخضر و إنتظامه في نسق الايام.


خالد الصائغ - دنقلا
ذاتُ دوران ٍ في نسق ٍ من الإرتقابِ موغلٌ في البهاء

هناك 3 تعليقات:

سراج يقول...

في البدء تصورت أنك قد أخطأت إذ إستعضت بحرف الذال بدلا من الزاي، لكن بعد أن الغوص في في مفاصل القصة وشخوصها.. رأيت أنها يجب أن تكون كذلك.. في العراق يعرف الإنسان السوداني برقي أخلاقه.. لكنني أُضيف له جمال الذوق الأدبي.. تحياتي

خالد الصائغ يقول...

عزيزتي سراج

مدين لك أنا دوما علي نبل تواصلك

خالص ودي

ابومدين يقول...

الزول ود الصائغ .... لقد عانقت الحروف و امتطيت صهواتها فروضتها...و صغت الكلمات فازدادت بريقا