الأربعاء، يوليو 01، 2009

سينوغرافيا وطن ... نص أصيل ... طبعة أولي

هو و إن لم يألف ذلك من قبل إلا أنه كان قد حلم به مرارا. حين إرتاد المساحة للمرة الأولي بذل جهدا مضاعفا ليتجاوز دهشة إنبهاره. لعله لم يكن قد أتقن دوره تماما. مد يده مصافحا صاحب الشأن دون أن تفارق شفتيه البسمة التي إجتهد في رسمها. كما لم ينس أن يحيه بإسمه الثنائي مسبوقا بكلمة أستاذ. هذا ما تعلمه من كتاب كان قد قرأه في زمن ما لا يذكر أسمه و لكنه كان متداولا بين شلة الصحاب. إنتابه شعور طفيف بالندم. لماذا لم يحاول البحث عن الكتاب و قراءته من جديد. لربما أفاده ذلك في معركته الوشيكة. فتحت له السكرتيرة باب المكتب و كفها البضة يشير إليه بما معناه تفضل. من أين يأتي هولاء القوم بهؤلاء السكرتيرات ذوات الأيدي البضة. ضحك في سره فقد أدرك أخيرا السبب وراء معاناة إبنة الجيران و فشلها في الحصول علي عمل رغم تخرجها من قسم السكرتارية بإمتياز. سيحاول أن ينصحها بأن تولي عنايتها ليديها النحيلتين و لو تطلب الأمر حقنها بالكورتيزون. ما أقلقه حقا هو البرود الذي باغته به صاحب الشأن. شعر بذلك في كف الرجل الذي لم يحرك شفتيه المطبقتين قيد حرف. إنسابت يد الرجل من بين اصابعه كمن يحاول الإمساك بسمكة حية في الماء. هو لم يتوقع أن يتم إستقباله بالأحضان و السؤال عن الحال و لكنه كان قد وطن نفسه علي ما هو أكثر حميمية من ذلك. لا يهم فهذه محض شكليات يجدر تجاوزها. حار في أمره أيظل واقفا أم يجلس. لكنه جلس أخيرا حين أحس أن جلوسه و وقوفه صنوان عند صاحب الشأن الذي كان قد وسد سماعة تليفونه علي كتفه و أسند عليها إذنه اليسري ثم شرع في حديث أيقن من إرتياح نبراته إلي أنه سيطول. ألح عليه سؤال غريب في تلك اللحظة و هو يطالع الرجل بزاوية عينه المنفرجة. لماذا نستخدم التليفون بيسرانا. اليد اليسري ثم الأذن اليسري. نادرا ما نستخدم اليمني. هل هي العادة. أم أن في الأمر ما هو خارج عن حدود إدراكه. أجمع أمره علي دلق هذا السؤال الحيوي علي شلة الأصدقاء مساءا. سيكون مادة دسمة لإثراء الحديث و ملء الفراغ المكتظ بالغبار المختلط بدخان الشيشة . آه ... ياللشيشة ... ما أروع هذا الكائن اللذيذ. إنه المعادل الموضوعي لكثير من الرغبات بعيدة المنال. إبتلع ريقه وهو يحس بطعمها بنكهة التفاح يجري في حلقه. مد بصره يفتش في أرجاء المكتب عن لا شئ. كل شئ أنيق و لامع. إنتابه شعور غريب تجاه المكان. ضحك في سره و هو يتذكر جدال شلة الأصدقاء حول مفهوم اللا إنتماء. ثلة المتعطلين و مثقفي الأرصفة
يسقطون فشلهم علي طرابيز الكونكان و مجالس الشيشة. يجملون خيبة أملهم بشئ من الفلسفة التي لا تسد رمقا و لا تنتج خبزا أو إداما. إصطدم بصره فجاة بحذائه المتهالك فقطع عليه استرسال أفكاره. التفت بحركة سريعة إلي صاحب الشأن. أوجس من فكرة أن يكون الرجل قد ضبطه متلبسا بالتوهان. تذكر وصية قريبه العائد من الخليج. أحرص علي أن يكون الإنطباع الأول عنك جيدا. لكن الرجل كان تائها بدوره مع مكالمته التليفونية. عاود النظر إلي حذائه. ثم سحب رجليه بسرعة محاولا إخفاء حذائه أسفل المقعد فللأحذية دورها الفعال في صناعة الإنطباع الأول. إنتبه فجأة إلي الصمت المطبق علي الغرفة. يبدو أن صاحب الشأن قد انهي مكالمته أخيرا. إلتفت ناحية الرجل و هو يبحث عن إبتسامته التي تلاشت في خضم توهانه.
- نعم
قالها الرجل و هو يشمله بنظرة لم يتسني له تفسيرها
- أنا حسن جاييك من طرف محجوب
- محجوب منو
- محجوب جاركم في الحلة
- ياتو حلة
كيف نسي هذا الرجل الحلة بهذه السرعة. لم تمض إلا سنوات قلائل منذ عبر شارع الأسفلت شرقا ليصبح من سكان العمارات
- ديم القنا
نظر إليه الرجل بغرابة و كأنه يسمع بالديوم لأول مرة. ثم إنتفض واقفا فجأة. وقف صاحبنا بدوره و هو يشعر بهدير معركة وشيكة
- خلينا من محجوب و ديم القنا هسة إنت عايز شنو
أحس صاحبنا بأن الفشل في تحقيق الهدف من زيارته بات وشيكا. مالك أنت و لمحجوب و مالك أنت و لديم القنا. لكنه استجمع شجاعته ليقول في صوت مبحوح
- قالوا عندكم فرص عمل هنا
- داير تشتغل شنو
- أنا ... أنا خريج اقتصاد جامعة الخرطوم
- ما مهم الجامعة إن شاء الله تكون جامعة الدول العربية ... عملت خدمة إلزامية ؟
- أيوة
- عندك شهادة عمليات
لم يفهم تماما ما الذي يقصده الرجل بالعمليات. ربما يقصد العملي و لكنه تخرج من كلية نظرية ليس بها عملي. كان الرجل ينتظر إجابته متحفزا. ربما يقصد الشهادة الجامعية. فتح الظرف الذي يحمله و سحب شهادته الجامعية ثم قدمها للرجل
- ده شنو يا زول ... عارفنك خريج الخرطوم ... ما عارف يعني شنو شهادة عمليات ... يعني مشيت الجنوب قبل كده
أدرك أن الرجل صاحب الشأن قد صرعه أخيرا و بالضربة القاضية
- لا
- خلاص إتفضل سلم أوراقك للسكرتيرة برة
أوشك أن يقول له و ما الجدوي من ذلك و لكنه أحجم ثم سحب نفسه إلي خارج المكتب. إنتفض و هو يسمع الباب يصفق خلفه بقوة. توجه تلقاء باب الخروج و هو يكاد يتعثر في خطواته. فجأة تذكر أنه عليه أن يسلم أوراقه للسكرتيرة صاحبة اليد البضة. فعل ذلك و هاجس مزعج يقول له بأن أوراقه ستسبقه إلي سلة المهملات الأنيقة أسفل مكتب السكرتيرة قبل وصوله إلي البيت. دلف إلي الشارع و قد إنتصف النهار و بلغ القيظ و الغبار أوجهما. إلتفت متأملا المبني الأنيق بعينين متعبتين يلتمع في إنسانهما سؤال كبير. كيف لهؤلاء القوم كل هذا الترف المريب. أين قسمتي و المطحونين من شعبي. أسئلة عصية ليست للإجابة. أدار ظهره للمبني وهو يمسح عن وجهه العرق الذي أصبح في كامل لزوجته بفعل الضجيج و الغبار.تحسس جيبه يبحث عن كيس التمباك. به سفة واحدة فقط. كورها بأصابعه في حرفية عالية ثم ألقاها في فمه لتتدحرج بين أسنانه ثم تنغرس في مخبئها الأثير قبل أن يطبق عليها بشفته العليا. ألقي نظرته الأخيرة إلي المبني الأنيق و واعيته ما زالت تضج بذات السؤال ثم بصق عن يساره و غاص في الزحام.