الفينا مشهودة ... جمالية التناص بين أبو قطاطي وعمرو بن كلثوم


شافعنا بيري الموت في الركاب سنة
يقيني الذي لا يحتمل برهة من الشك أن هذا البيت من الشعر من أقوي و أبلغ ما قيل في الفخر إن لم يكن أبلغه طراً.
فبنية البيت من القوة بمكان و نسيج الفكرة متماسك و مبتدع.
لله در شاعرنا أبو قطاطي فقد حشد في هذا البيت مقابلة عميقة الدلالة و موغلة في نصاعتها ... (فالشافع) الذي ليس من سُنته القتال و خوض الحروب في مألوف الحياة و الأشياء و شأنه لا يتعدي البراءة و خلو الخاطر إلا من اللهو. هذا (الشافع) تجاوز به و بنا أبو قطاطي الفكرة التقليدية ل (شافعيته) إلي سياق آخر صادم لعادية الحياة و الأشياء و سياقهما المتعارف و هنا تكمن قوة البيت و فخامته.
فإذا كان هذا هو حال (شافعنا) صنو البراءة و اللانضج فكيف بناضجي القوم من الرجال و الفرسان.
و لو أن شاعرنا أبو قطاطي قد ساق البيت علي هذا النحو مثلا :
(فارسنا) بيري الموت في الركاب سنة
لجاءت حمولة البيت الإبداعية عادية و مفرطة في المألوف و لا تحمل جديداًأو إستثنائياً. فأي شأن يرتجي للفارس سوي القتال و الطعان.
و ثمة تناص ما ألمحه جليا في هذا البيت من الشعر مع سياق آخر فخيم للفخر لعمرو بن كلثوم في قوله:
إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا
و لكن بيت أبو قطاطي أقوي و أعمق شاعرية فيما أجزم
ف )شافعنا) في نظم أبوقطاطي شريك و مساهم أساسي في إنتاج المجد و صانع له و يمتلك رؤية واضحة تجاه هذا المجد و واع تماما بدوره في توطيد أركانه و الذود عنه لأنه واضع لنفسه في حيز الفعل و المبادرة ... بينما الصبي (الشافع) في قوم إبن كلثوم مستهلك لمجد القبيلة بالدرجة الأولي و وارث له و لا إسهام له في إنتاجه أو المحافظة عليه و مجده مستمد في الأساس من مجد القبيلة و مرهون ببقاء مجدها.

التناص توافق علي مستوي الفكرة مع إختلاف شكل الصياغة و هو فعل مشروع تماما و لا يشترط القصدية فقد يحدث أن يتناص مبتدعان دون أن يدرك أحدهما الآخر لذلك لا نستطيع أن نجزم هنا بتمثل ما ... بوعي أو بدونه ... لأبو قطاطي لسياق عمرو بن كلثوم فقد تنبثق ذات الفكرة في ذهنين مختلفين دون تواطؤ مسبق.
و أميل تماما إلي التفريق بين التناص و بين العديد من المفاهيم التي تتقاطع معه و لكنها تفترق عنه في نقطة أساسية و هي إشتراط توفر عنصر القصدية فيها حال كونها تتأسس وترتكز علي إمتصاص أو إجترار أو تمثل نصوص أخري ... فالتضمين مثلا لا يتم بغير قصدية و كذلك الإقتباس و الإحالة و الإنتحال وصولا إلي السرقات الأدبية.
و التناص  قديم قدم الإنسانية غيرأن المصطلح قد تم سكه حديثا بواسطة الناقدة الروسية جوليا كرستيفا التي تقول بمركزية التناص في الإبداع الفني وتسوّق للمفهوم الداعي إلي أن النص الفني لا يعدو في حقيقته سوي كونه تناص متجدد لنصوص أخري.